تَتَألَّقُ المَدينَةُ في اللَّيْل / تومّازو دي ديو

 تومّازو دي ديو



شاعر وناقد ومترجم إيطالي، من مواليد (1982)، يعيش في ميلانو ويعمل فيها. صدرتْ مجموعته الشِّعريّة الأولى عام 2009، بعنوان (حِكايات رمْزيّة)، ثمَّ صدرتْ له مجموعته الشِّعريّة الثّانية عام 2014، تحت عنوان (لكَ وللجميع)، وقد تُرجمتْ إلى اللغة الفرنسيّة. نُشرتْ مقالاته النَّقديّة ونصوصه الشِّعريّة في مجلّات إيطاليَّة مختلفة.



الرَّأسُ الّذي يَظْهرُ الآن في الصُّورةِ هي أنْتِ،

نادِلةٌ في الواحِدِ والعِشْرين، أمامَ طاوِلةِ البار.

عيْنانِ زرْقاوانِ عيْنانِ بيْضاوان. أحدُ الفكَّيْنِ

اِنْزاحَ عَنْ مَكانِهِ. ولكنْ، لو أنّنا عُدْنا أدْراجَنا

وصَعِدْنا كُلَّ دَرجةٍ، بَعدَ الأتْريوم والشّارعِ.

لو أنّنا مَحونا بابَ البارِ والسَّيّارَةِ ولَحْظتكِ تِلْكَ

وفَجْرِ صَفحَةِ الوَقائِع. ما هي الحَياةُ

وأنْتِ تَبقينَ هكذا، غيْر عادِلةٍ في النَّظراتِ الّتي أرْسلتِها إليَّ

أنا الغَريبُ بيْن غُرباء آخرين. إنَّ الأمواتَ همْ من يُعيدُنا إلى المونولوج،

إلى الحِكايةِ المُسْتحيلةِ للحَقيقيَّة.

 

*****

  

تَتَألَّقُ المَدينَةُ في اللَّيْل،

في الوَحْشةِ وفي الشّوارِع. الزّوايا الّتي تَجْتازُها

النِّساءُ القَليلاتُ اللاهِثاتُ على الرَّصيف،

كُلُّ شَيءٍ يَبْدو من القَطران

وهذا الزَّمَنُ، لا بَلْسَمَ له ولا مُسْعِف.

طِوالٌ همُ الرِّجال يَنامونَ على العُشْبِ

وحِجارةُ النَّافوراتِ، مُهدَّمةٌ حافّاتُها،

تَمْلَؤها الأعشابُ الحَزازيّة، والأوراق والظِّلالُ

ولكنَّه اللَّيْلُ، والوَحْشةُ والشَّوارِع. لُغةٌ ميْتَةٌ

تُعَشْعِشُ في الأشْياء الحيَّةِ وتَتْرُك

صُدوعَكَ مِثْل مَيْسَم: اِجْعلْني قادِرًا

على إيلاجِ رأسي بأكْمَلِهِ

على الدّخولِ وأنا أدْفعُ

ضارِبًا كُلْيَتيَّ وفَخِذيَّ وصدْري

بِقَبْضَةِ بَهجَةٍ دُنْيويَّة.

 

*****

 

كُلّ هذا ليْسَ بِمقدُورِنا نِسْيانُه

إذا ما ابْتدأتْ هذهِ المُغامَرة.

الشَّابُّ المُصابُ بمُتلازِمة داون

يُوزِّعُ الصُّحفَ، كلَّ صَباح،

لا يَبيعُها، لا يَشْتريها،

تَحْتَ الظُّلَّة يقفُ، في المَطَر

وفي الشَّمْسِ، يعدُّ الدَّقائِقَ النَّاقِصة

على مَجيءِ الحَافِلة الّتي تَقْذِفكَ في المَدينَة

إلى عَمَلٍ بَعيد. ها قَدْ وَجَد ما يَقومُ به،

عَثَرَ على مَكانِه وعلى ما يُجْهِده،

دُونَ ثَمَنٍ أو مَكْسب. خُذِ الصَّحيفة

الّتي يُناوِلُكَ إيّاها، وانْظُر إليْه.

هو أيْضًا، بيْنَما يُحرِّكُ عَجَلة هذا العالَمِ،

يَبتَسِمُ

باسْمِ لا أَحَد.

 

*****

 

ربّما عليْكَ أنْ تُغمِضَ عيْنيْكَ

بانْتِظارِ أنْ يهْوي الفأسُ

ويَشُقُّ اليَقْظَة جانِبيًّا

كما تَتَفَتَّحُ في آخِرِ الغُصْنِ

أبْهى زهرةٍ في الموْسِم.

ميلانو، المَنازِلُ، الشَّوارِع، المَساء،

دفْقُ النّاس عنْدَ الانْعِطافة إلى حيْثُ الخَطَوات

تَفْقِدُ حَقيقَتَها. ويَمرُّ في ذِهْني ذَلكِ العَربيّ

شابٌّ يقِفُ في بنْطلونِ الجينز الضَّيِّق،

في حِذائه البرّاقِ ذي الحَلقاتِ الذّهبيّة

في شارِعِ ڨيتْروڨيو بانْتِظار

المِنّة منْ أحدِهِم، كَما أفْعلُ أنا

بانْتِظار المِنّة مِنْ حَيوانٍ ما، مِثْلي أنا

يَهْرُسُه السَّغب.

*****

  

أطْفِئي الضَّوءَ هيّا، فاللَّيْلُ على كلِّ حالٍ آتٍ،

والجُرْحُ الدَّقيقُ الضّائِعُ بيْنَ السّاعاتِ بيْنَ الوَجناتِ.

فلْتُظهِر الأشْياءُ هَيئتَها المُضبّبةَ بِزهْوٍ،

وهلِ التَّوهّج إلّا هذا. حينما نَغْرَق في الصَّمْت.

حينَما نَكونُ غافِلين، أفْظاظًا أو مُقْفِرين، مِثْل أرْضٍ في الأَرض.

حينما تَكْثُرُ البِركُ في أعْماقِنا، والشُّعَبُ الهوائِيّةُ والتَّقلُّصات. 

لا تُجيبينَ، تُديرينَ وَجْهكِ، تضَحكينَ وتَنْهضينَ

تَفْتحينَ فَمكِ، تتحدّثينَ وتَمشينَ، تَمْضينَ حافِيةً

صوْبَ الشُّبّاكِ. لأنَّ الوَجهَ الحقيقيَّ وهْجُ نيرانٍ

يَمْحو كُلَّ الأَضْواءِ الأُخْرى.

 

*****

 

الشَّجرةُ تَكْسُوها العَتَمة. على أنَّهُ المَساء

يُقبِل فتُرْفَعُ الأواني من المَطْبخ.

لقدْ كُنّا حذِرينَ، حاوَلْنا

أنْ نُنْجزَ الأشْياءَ باهْتِمام وحَذَر. وكانَ الصَّباحُ

أوراقًا صفراءَ وسَماءً وخَطَوات، الماءُ

يتوغَّلُ رويْدًا في شُقوق الأرضِ، لا عِمارات

لِتُعكِّر صَفوَنا. الشَّجرةُ تَكْسُوها العَتَمة. ونحْنُ

يُحيطُ بِنا العُشْبُ مِنْ كُلِّ صوْب. البَيْتُ،

الوَجهُ في المِرآةِ، الإشاراتُ والمَساءُ

يَهْمِسُ ويَقولُ: تريَّث.

كانَ بِوسْعِنا أنْ نفعلَ أكثَر مِن ذَلِكَ، كان بِوسْعِنا

ولكِن لا، فنَحنُ جميعًا

مُذْنِبون.


ترجمة گاصد محمد


Commenti