أودّ أنْ تكون روحي خفيفةً عليك / أنتونيا ﭘـوتسي

 

أنتونيا ﭘـوتسي



ولدتْ أنتونيا ﭘـوتسي في 13 شباط 1912. طفلة شقراء، هزيلة البنية ضعيفتها، حتّى حسب أهلها أنّها لن تصمد أمام قسوة الحياة، وبالفعل فقد كان هكذا، إلّا أنّ ذلك جاء في وقت لاحق. نشأتْ في عائلة برجوازيّة ميسورة، واكتنفها محيط ذو ثقافة رفيعة. فقد كان أبوها، روبيرتو ﭘـوتسي، محامٍ شهير في ميلانو، وأمّها الكونتيسة لينا، امرأة مثقّة ومحبّة للقراءة والاطلاع، بالأخص على الأداب الأجنبيّة، وكانتْ تجيد الفرنسيّة والانكليزيّة، وتحبّ الموسيقى الكلاسيكيّة وتحسن العزف على البيانو، وتمارس الرسم والتطريز. أمّا جدّها فقد كان مؤرّخًا ذائع الصيت ورسّامًا ومحبّا لجميع ألوان الفنون.

غمرت العائلة طفلتها بالحبّ والعطف والرعاية، فكانتْ موضع اهتمام عمّاتها وأجدادها، فضلًا عن أبويها. توجّهتْ إلى الدراسة باكرًا، أي قبل أن تبلغ السادسة من العمر. وحين وصل إلى المرحلة الأولى من الدراسة الاعداديّة، وقد بلغت الرابعة عشرة من العمر، جرفها حبّ الشعر وخصّصتْ له معظم وقتها. في الوقت ذاته وقعتْ أنتونيا في الحب؛ وكانتْ تلك تجربتها الأعمق، وقد تركتْ أثرًا لا يمّحي في حياتها القصيرة. أحبّتْ أستاذها في المدرسة، أستاذ اللغتين الأغريقية واللاتينية، أنتونيو ماريا ﭼيرڤي. ولم تجذبها إليه هيئته أو جماله، بل شغفه بالأدب والمعرفة واهتمامه المفرط بطلابه، ونصحه لهم ورفدهم بالكتب من أجل توسيع معرفتهم واطلاعهم. توقّد الحب في قلب أنتونيا لهذا الرجل المحبّ للثقافة والأدب، والحامل للمبادئ وللقيم العليا، فشعرتْ بأنّ هناك الكثير ممّا يجمعهما. إلّا أنّ أباها وقف بكلّ قواه ضدّ هذا الحب وهذه العلاقة غير المتكافئة، حتّى أُجبرتْ أنتونيا على إنهاء العلاقة، وكتبتْ في ذلك قصيدة بعنوان "الحياة الّتي حلمت بها". ومع أنّها خاضت تجارب حبٍّ أخرى، إلّا أنّ الأولى بقيت أبدًا تجربتها الأصدق والأعمق.

تدخل أنتونيا الجامعة عام 1930، تعقد صداقاتٍ مع شخصياتٍ مهمّة، من بينها الشاعر ڤيتّوريو سريني، الفيلسوف ريمو كانتوني والفيلسوف والناقد الفني دينو فورماجّو. تتخرّج من الجامعة عن بحث يتناول نشأة فلوبير الأدبيّة.

تمضي بعض الوقت في انكلترا، عام 1931، ثمّ تتنقّل بين النمسا وألمانيا، بين عامي 1935 و 1937، رغبة في زيادة معرفتها في اللغتين الانكليزيّة والألمانيّة. يأخذها الشغف بفنّ التصوير، وتبدأ مشوارها في جمع الصور في ألبومات، لتصبح وكأنّها دواوين شعريّة. إذ كانتْ تحوّل رحلاتها في الطبيعة أو تسلّقها الجبال، إلى صور فنّية باهرة.

وفي منتصف الثلاثينيات جالت رفقة الشاعر ڤيتّوريو سريني في أرياف ميلانو، وشهدتِ البؤس والفقر، فتولّد في نفسها عداء للفاشيّة وفكر مناهض له، ولم تكن حينئذٍ قد تبلورت الحركات المناهضة للفاشيّة. وقد أثّرتْ مشاهد العوز والفقر ومصاعب الحياة في نفس انتونيا، فأخذ شعرها منحى آخر، ودأبت تعبّر عن جزعها وحزنها لما تراه. ثمّ صارتْ تنظر بشؤم إلى الحروب الايطاليّة في أثيوبيا وإسبانيا، وتعدّها حروب قتل ودمار، فيما كان الآخرون ينظرون إليها من منظار الوطنيّة والتضحية.

تمزّق قلب أنتونيا، الرقيق والحسّاس، بفعل فشل قصّة حبها عام 1938. اضف إلى ذلك أنّ إنسانيتها الكبيرة، مع ما لها من ثراء وما هي عليه من يسر وعيش كريم، انصهرتْ مع أرواح الفقراء والجائعين، وعانتْ جرّاء ما آلت إليه الأوضاع السياسيّة، وحزنتْ بشدّة إثر القوانين العنصريّة المجحفة الّتي أصدرها النظام الفاشي، الّتي تسبّبتْ بفرار اليهود، وكان بينهم بعض أصدقائها. كلّ تلك الظروف مجتمعة أدّت إلى انتحارها، في الثالث من كانون الأول 1938، وهي ابنة ستّ وعشرين ربيعًا.

قال عنها أوجينيو مونتاله (نوبل 1975): «إنّها روح استثنائيّة في نقائها وحسّاسيتها، فلمْ تقوَ على حمل أعباء الحياة».

 

 

 

 

هبة يسيرة (1934)

 

أودّ أنْ تكون روحي خفيفةً عليك،

مثل أطراف أوراق الحَوْر

في قمم الجذوع الّتي يلفّها الضّباب.

 

أودّ بالكلام أنْ أقودك

عبر طريقٍ قفرٍ تخطّها ظلالٌ هزيلة

لنبلغ الوادي بعشبه الصّموت،

ونبلغ البحيرة

حيث يأزّ القصب بفعل أنسام خفيفة،

ويلهو السّرمان فوق مياه ضحلة.

 

أودّ أنْ تكون روحي خفيفةً عليك،

وأنْ يكون شِعْري لك جسرًا،

دقيقًا ومتينًا وناصعًا

فوق الهاويات الدّوامس

لهذه الأرض.

 

 **********

  

خرقة (1929)

 

ثمّة فوق الجدار ثوب سمائيّ خلق

مجعّد بفعل آثار أصابع زهريّة،

مسماران على هيئة النّجوم يسندان قوامه

وأنا هناك، تحته،

كخرقة رماديّة

تتعثّر بها الأقدام

لا تستحقّ عناء التقاطها،

من هنا تجرّها الأقدام ومن هناك

ثمّ تركلها

وترميها بعيدًا.

 

 **********


استراحة (1929)

 

هكذا،

رأسي في حجرك

ويداك على شعري.

وتحت أجفاني اضطرام ناصع

- كلّ رمال الشّاطئ، تحت الشّمس -

 

في داخلي،

يتهادى الصّمت على مويجات

كمياه سوداء قليلًا، من غير رغوة،

والرّوح تتأرجح في مجراها

مثل محّار هُلاميّ

فتح صدفته

لينعم بلطف البحر.

 

**********


أزهار (1933)

 

ألا من أحدٍ

ألا من أحدٍ يبيع الأزهار

في هذا الشارع اللعين؟

 

يا لهذا البحر الحالك

يا لهذه السماء الداكنة

وهذه الريح المعادية.

 

آه، يا أزهار الكاميليا التي كانت في الأمس

الكاميليا البيضاء والحمراء

الباسمة في فناء الدَيْر الذهبي

آه، أيها الربيع المخاتل.

 

من يبيعني اليوم زهرة؟

أنا التي يحتشد في قلبي الكثير منها

سوى أنها متراصّة

في باقات ثقيلة

سحقتها أقدام ما

وقتلتها.

تحتشد فيّ الكثير منها

حتى تكاد روحي تختنق

تزهق تحت كدس الأزهار التي

لم أمنحها لأحد.

 

في أعماق هذا البحر الحالك

يستقّر مفتاح القلب -

في أعماق القلب المعتم

ستثقلني

حتى المساء

أزاهيري المتفتّحة

الحبيسة.

 

آه، من يبيعني زهرة -

زهرة أخرى تفتّحت خارج قلبي

في بستانٍ حقيقي

حتى يتسنّى لي أن أمنحها

إلى من يرقُبني؟

 

ألا من أحدٍ

ألا من أحدٍ يبيع الأزهار

في هذه الطريق الحزينة؟

 

 **********

 

غُروبٌ مكفهر (1929)

 

الشّمسُ

تركنُ إلى حِجر الجبل،

وفي انْحدارِها الوقّاد

تبدو كعينٍ بُرتقاليّةٍ مَليئةٍ بالدّهشة،

رُمُوشُها

أَشِعّةٌ نِصالٌ برّاقة،

تحت حاجبٍ مقطبٍ

من السحب الرصاصيّة.

 

**********


مساء نيسانيّ (1931)

ينثر القمر ضياءه عذبًا

ما وراء زجاج النوافذ

على أصيص زهرة الربيع:

أتخيّله، دون أنْ أراه،

كزهرة ربيع عملاقة هو أيضًا،

زهرة ذاهلة

وحيدة

في مرج السماء الأزرق.


 

ترجمة گاصد محمد

 

Commenti